فصل: الخبر عن ثورة أهل بجاية ونهوض الحاجب إليه في العساكر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ ابن خلدون المسمى بـ «العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر» (نسخة منقحة)



.الخبر عن ثورة أهل بجاية ونهوض الحاجب إليه في العساكر:

كان صنهاجة هؤلاء من أعقاب ملكانة ملوك القلعة وبجاية نزل أولوهم بوادي بجاية بين القبائل من برابرتها الكتاميين في مواطن بنى وريا كل منذ أول دولة الموحدين وأقطعوهم على العسكرة معهم ولما ضعفت جنود الموحدين وقل عددهم انفردوا بالعسكرة مع السلطان وصار لهم بذلك اعتزاز وزبون على الدولة وكان الأمير أبو عبد الله هذا قد أصاب منهم لأول أمره وقتل محمد بن تميم من أكابر مشيختهم وكان صاحبه فارح مولى ابن سيد الناس عريفا عليه من عهد أبيه الأمير أبي زكريا وكان مستبدا على المولى أبي عبد الله فلما نزل عن إمارته للسلطان أبي عنان سخط ذلك ونقمه عليه وأسرها في نفسه ولم يبدها لكماله وسرحه أميره مع عمر بن علي الوطاسي لينقل حرمه ومتاعه وماعون داره فوصل إليها وشكا إليه الصنهاجيون مغبة أمرهم في ثقل الوطأة وسوء الملكة فأشكاهم ودعاهم إلى الثورة ببني مرين والقيام بدعوة الموحدين للمولى أبي زيان صاحب قسنطينة فأجابوه وتواعدوا بالفتك بعمر بن على بمجلسه من القصبة وتولى كبرها منصور بن الحاج من مشيختهم وباكره بداره على عادة الأمراء ولما أكب عليه ليلثم أطرافه طعنه بخنجره وفر إلى بيته جريحا فولجوا عليه واستلحموه وثارت الغوغاء من أهل البلد في ذي الحجة من سنة ثلاث وخمسين وسبعمائة.
وركب الحاجب فارح وهتف الهاتف بدعوة المولى أبي زيد صاحب قسنطينة وطيروا بالخبر واستدعوه فتثاقل عن إجابتهم وبعث مولى ابن المعلوجي للقيام بأمرهم وبلغ الخبر إلى السلطان فاتهم المولى أبا عبد الله بمداخلة حاجبة فاعتقله بداره واعتقل وفدا من ملاء بجاية كان ببابه وثبتت آراء المشيخة من أهل بجاية وتمشت رجلاتهم وأولو الرأي والشورى منهم في الفتك بصهاجة والعلج وداخلهم القائد هلال مولى ابن سيد الناس من المعلوجي وعلى بن محمد بن ألميت حاجب الأمير أبي زكريا يحيى ومحمد ابن الحاجب أبي عبد الله بن سيد الناس وتواعدوا للفتك بفارح يوم وصول النائب من قبل صاحب قسنطينة فجهروا بالنكير على الحاجب ودعوه إلى المسجد ليؤامروه ونذر بأمرهم فاعتد دار شيخ الفتيا أحمد بن إدريس فاقتحموا عليه الدار وباشره مولا محمد بن سيد الناس فطعنه وأشواه ورمي بشلوه من سقف الدار وقطع رأسه فبعثوا به إلى السلطان وفز منصور بن الحاج وقومه صنهاجة من البلد وكان بالمرسي أحمد بن سعيد القرمرني من خاصة السلطان جاء في السفن لبعض حاجاته من تونس ووافى مرسي بجاية يومئذ فأنزلوه واعصوا صبوا عليه وتنادوا بدعوة السلطان وطاعته فأشار علهم أحمد القرموني أن يبعثوا إلى قائد تدلس من مشيخة بني مرين يحياتن بن عمر بن عبد المؤمن الونكاسي فاستدعوه ووصل إليهم في جملة من العسكر وبعثوا بأخبارهم إلى السلطان وانتظروا فلما بلغ الخبر إلى السلطان أمر حاجبه محمد بن أبي عمر بالنهوض إلى بجاية فعسكر بساحة تلمسان وانتقى له السلطان من قومه وجنوده خمسة آلاف فارس أزاح عللهم واستوفي أعطياتهم وسرحه فنهض من تلمسان بعد قضاء منسك الأضحى وأغذ السير إلى بجاية ولما نزل ببني حسن جمع له بمعسكرهم من تيكلات وخرج إليه المشيخة والوزراء فتقبض على القائد هلال وأشخصه إلى السلطان ودخل البلد على التعبية واحتل بقصبتها لمحرم فاتح أربع وخمسين وسبعمائة وسكن الناس وخلع على المشيخة واختص علي بن ألميت ومحمد بن سيد الناس واستظهر بهم على أمره وتقبض على جماعة من الغوغاء وعلى من تحت أيديهم ممن يتم بالمداخلة في الثورة يناهزون مائتين واعتقلهم وأركبهم السفن إلى المغرب فودع الناس وسكنوا وتوافت وفود الزواودة من كل جهة فأجزل صلاتهم واقتضى الطاعة منهم ووصل عامل الزاب يوسف وسد فروجه وارتحل إلى تلمسان أول جمادى لشهرين من مدخله وأغذ السير بمن معه من العرب والوفود وكنت يومئذ في جملتهم وقد خلع على وحملني وأجزل صلتي وضرب لي الفساطيط فوفدت في ركابه وقدم تلمسان لأول جمادى الأخيرة فجلسن السلطان للوفد واعترض ما جنب له من الجياد والهدية وكان يوما مشهودا ثم أسنى السلطان جوائز الوفد واختص يوسف بن مزني ويعقوب بن علي بمزيد من البر والصلة وخصوا بجاه من الكرامة وآمرهم في شأن إفريقية ومنازلة قسنطينة ورجع معهم الحاجب ابن أبي عمر على كره منه لما نذكره من أخباره وانصرفوا إلى مواطنهم لأول شعبان من سنة أربع وخمسين وسبعمائة وانقلبت معه بعد إسناء الجائزة والخلع والحملان من السلطان والوعد الجميل بتجديد ما إلى قومه ببلده من الأقطاع والله أعلم.

.الخبر عن الحاجب ابن أبي عمرو وما عقد له السلطان على ثغر بجاية وعلى منازلة قسنطينة ونهوضه لذلك:

سلف هذا الرجل من أهل المهدية من أجواد العرب من بني تميم بإفريقية وانتقل جده علي إلى تونس باستدعاء السلطان المستنصر وكان فقيها عارفا بالفتيا والأحكام وقلده القضاء بالحضرة واستعمله على كتب علامته في الرسائل والأوامر الكبرى والصغرى فاضطلع بذلك وهلك على حالة من التجلة والمنصب وقلد ابنه عبد الله من بعده العلامتين أيام أبي حفص عمر ابن الأمير أبي زكريا كما كان لأبيه فاضطلع لذلك وكان أخوه أحمد بن على مستنا وقورا منتحلا للعلم ونشأ ابنه محمد وقرا بتونس وتفقه على مشيختها ولما التاثت أمورهم وتلاشت أحوالهم خرج محمد بن أحمد بن على مبتغيا للرزق والمعاش وطوحت به الطوائح إلى بلد القل وكان منتحلا للطلب والكتابة فاستعمل شاهدا بمرسى القل أيام رباسة الحاجب ابن أبي عمرو وكانت له صحبة مع حسن بن محمد السبتي المنتحل بنسب الشرف وكانا رفيقين في مطارح اغترابهما فسعى له في مرافقة الشهرة فأسعفا واتصلا بابن أبي عمرو فحمد مذاهبهما ولما نزع الشريف عبد الوهاب زعيم تدلس إلى طاعة الموحدين أيام التياث أبي حمو بخروج محمد بن يوسف عليه واعتلال الدولة ودخل في أمر ابن أبي عمرو وجملته فبعث محمد ابن أبي عمرو هذا وصاحبه إلى تدلس واستعمل حسن الشريف في القضاء ومحمد بن أبي عمرو في شهادة الديوان فلما برئت الدولة من مرضها واستفحل أمر أبي حنو وتغلب على تدلس وصار رئيس الفتيا من الإمام لاقتضاء طاعتها وانفاذ أهلها على السلطان في الوفد واستقرا بتلمسان يومئذ واستعملا في خطة حفصاء متعاقبين أيام بني عبد الواد وأيام السلطان أبي الحسن وتعصب على بن أبي عمرو أيام قضائه جماعة من مشيخة البلد وسعوا به إلى السلطان أبي الحسن وتظلموا فأشكاهم على علم ببراءته واختصه بتأديب ولده فارس هذا وتعليمه فأفرغ وسعه في ذلك وربى ولده محمدا هذا الحاجب مع السلطان أبي عنان توأما وخليلا وألقى عليه محبته حتى إذا خلص له الملك رفع رتبة محمد بن أبي عمرو هذا ورقاه من منزلة إلى أخرى حتى إذا أربى به على سائر المراتب وجعل إليه العلامة والقيادة والحجابة والسفارة وديوان الجند والحساب والقهرمة وسائر ألقاب دولته وخصوصيات داره فانصرفت إليه الوجوه ووقفت ببابه الأشراف من الأعياص والقبائل والشرفاء والعلماء وسرب إليه العمال أموال الجباية تزلفا وطال أمره واستيلاؤه على السلطان ونفس عليه رجال الدولة ووزراؤها ما آتاه الله من الحظ حتى إذا خلا لهم وجه السلطان منه عند نهوضه إلى بجاية حامت أغراض السعاية على مكانه فقرطست وألقى السلطان أذنه إلى استماعها فلما رجع من بجاية وكانت له الدالة على السلطان وجد عليه في قبول الألاقي ولقيه مغاضبا فتنكر له السلطان ثم تجنى بطلب الغيبة عن الدولة ويعقد له على بجاية متوهما أن السلطان ضنين به فبادر السلطان إلى إسعافه وبداله ما لم يحتسب من الأعراض عنه ورجع إلى الرغبة في الإقالة فلم يسعف وعقد له على حرب قسنطينة وحكمه في المال والجيش وارتحل في شعبان من سنة أربع وخمسين وسبعمائة واحتل ببجاية آخرها وأشتى بها.
ونصب الموحدون تاشفين ابن السلطان أبي الحسن المعتقل عندهم من لدن عهد المولى لفضل واعتقاله إياه فنضبوه للأمر لتفريق كلمة بني مرين وجمعوا له الآلة والفساطيط وقام بأمره ميمون بن علي لمنافسته مع أخيه يعقوب وسمع بخبره يعقوب فأغذ السير بحاله من بلاد الزاب وفرق جمعهم وردهم على أعقابهم وأحجزهم بالبلد ولما انصرم الشتاء وقضى منسك الأضحى عسكر بساحة البلد واعرض العساكر وأزاح علهم وفزق أعطياتهم وارتحل إلى منازلة قسنطينة واجتمع إليه الزواودة بحللهم وجمع المولى أبو زيد صاحب قسنطينة من كان على دعوته من أحياء بونة وميمون بن على بن أحمد وشيعته من الزواودة وعقد عليهم لحاجبه نبيل وسرحه للقاء ابن أبي عمرو وعساكره فأوقع بهم الحاجب لجمادى من سنة خمس وخمسين وسبعمائة واكتسح أموالهم ونازل قسنطينة حتى تفادوا منه بتمكينه من تاشفين ابن السلطان أبي الحسن المنصوب للأمر فاقتادوه إليه وأشخصه إلى أخيه السلطان وأوفد المولى أبو زيد ابنه على السلطان أبي عنان فتقبل وفادته وشكر مراجعته وانكفأ الحاجب ابن أبي عمرو إلى بجاية وأقام بها إلى أن هلك في المحرم سنة ست وخمسين وسبعمائة فذهب حميد السيرة عند أهل البلد وتفجعوا لمهلكه وبعث السلطان دوابه لارتحال عياله وولده ونقل شلوه إلى مقبرة أبيه بتلمسان وسرح ابنه أبا زيان في عساكر بنى مرين لمواراته بها وعقد على بجاية لعبد الله بن على بن سعيد وزيره فنهض إليها في شهر ربيع من سنة ست وخمسين وسبعمائة واستقر بها وتقتل ما حمده الناس من مذاهب الحاجب وسيرته فها على ما نذكره وجهز العساكر إلى حصار قسنطينة إلى أن كان من فتحها ما نذكره بعد إن شاء الله تعالى.